بعد أشهر من الاجتماعات والنقاشات رفيعة المستوى، اتفق المسؤولون الحكوميون الأميركيون وقادة شركات التكنولوجيا الكبرى على شيء واحد بخصوص الذكاء الاصطناعي، ألا وهو أن التكنولوجيا التي يمكن أن تغيّر العالَمَ في حاجة إلى بعض القواعد الأساسية. لكن الكثيرين في «وادي السيليكون» يبدون متشككين. وفي هذا الصدد، أخذت مجموعة متزايدة من الشركات المهمة في مجال التكنولوجيا، بما في ذلك مستثمرون نافذون ورؤساء تنفيذيون لشركات برمجيات متوسطة الحجم ومؤيدو التكنولوجيا مفتوحة المصدر، تُبدي معارضتها لهذا الأمر، معتبرةً أن قوانين الذكاء الاصطناعي يمكن أن تقضي على المنافسة في مجال حيوي جديد. 
وبالنسبة لهؤلاء المعارضين، فإن رغبة اللاعبين الكبار في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل «غوغل» و«مايكروسوفت» و«أوبن إيه آي» (المصنعة لـ«تشات جي بي تي»)، في تبني التقنين والتنظيم ليست سوى محاولة من قبل تلك الشركات لتحصين مزاياها وتفوقها الحالي في هذا المجال، وهو ما يعني سحب السلّم خلفها. وقد بلغت مخاوف قادة التكنولوجيا هؤلاء أوّجَها مؤخراً حينما وقّع الرئيس بايدن على أمرٍ تنفيذي يقضي بإعداد الحكومة لخطة حول تطوير قواعد الاختبار والاعتماد الخاصة بنماذج الذكاء الاصطناعي، أي الخوارزميات الأساسية التي تحرّك أدوات الذكاء الاصطناعي «التوليدية» مثل روبوتات الدردشة وصانعي الصور.
وفي هذا السياق، قال جاري تان، رئيس «واي كومبِنيتر»، وهي حاضنة للشركات الناشئة يوجد مقرها في سان فرانسيسكو وقد ساهمت في رعاية شركات مثل «إير بي آند بي» و«دور داش» حينما كانت في بداياتها: «إننا ما زلنا في الأيام الأولى للذكاء الاصطناعي التوليدي، ومن الضروري ألا تقوم الحكومات باختيار الفائزين بشكل استباقي وإغلاق المنافسة عبر اعتماد لوائح تنظيمية مقيدة لا تقدر على الالتزام بها سوى الشركات الكبرى». وأضاف قائلاً إن النقاش الحالي لم يشمل بما يكفي أصواتَ الشركات الصغيرة، وهو أمر يعتبره في غاية الأهمية من أجل تعزيز المنافسة، وتحديد الطرق الأكثر أماناً للاستفادة من الذكاء الاصطناعي. 

والجدير بالذكر هنا أن شركات مثل شركتي «أنثروبيك» و«أوبن إيه آي»، الناشئتين المؤثرتين في مجال الذكاء الاصطناعي، لديها ارتباط وثيق بشركات التكنولوجيا الكبرى، حيث تحصل منها على كميات هائلة من الاستثمارات.
ويقول مارتن كاسادو، الشريك العام في شركة «أندريسن هورويتز» التي قامت سابقاً باستثمارات في «فيسبوك» و«سلاك» و«ليفت»: «إنهم لا يتحدثون باسم الأغلبية الساحقة من الأشخاص الذين ساهموا في هذه القطاع»، مضيفاً أن معظم مهندسي الذكاء الاصطناعي وروّاد الأعمال يراقبون النقاشات الدائرة حول تقنين القطاع وتنظيمه من بعيد، مركِّزين على شركاتهم عوضاً عن محاولة التأثير على السياسيين. 
وقال كاسادو: «إن الكثير من الناس يرغبون في التصنيع والبناء، لأنهم مبتكِرون، وهم يشكّلون الأغلبية الصامتة»، مضيفاً أن الأمر التنفيذي أظهر لهؤلاء الأشخاص أن التقنين قد يأتي بشكل أسرع مما كان متوقعاً.
وكانت شركة كاسادو الاستثمارية قد أرسلت رسالة إلى بايدن توضح فيها مخاوفها، وهي رسالة وقّعها قادةُ شركات ناشئة بارزة في مجال الذكاء الاصطناعي مثل الرئيس التنفيذي لشركة «ريبليت» أمجد مسعد، وآرثر مينش من «ميسترال»، بالإضافة إلى قادة شركات تكنولوجيا أكثر قوةً ورسوخاً مثل توبي لوتكي، الرئيس التنفيذي لشركة «شوبيفاي» للتجارة الإلكترونية، والذي كتب بعد الإعلان عن الأمر التنفيذي في تغريدة يقول: «إن تنظيم الذكاء الاصطناعي فكرةٌ سيئةٌ». 
وقال كاسادو إن مطالبة شركات الذكاء الاصطناعي بأن تخضع للحكومة ربما يجعل تطوير تكنولوجيا جديدة أكثر صعوبةً وكلفةً. وأضاف كاسادو وأندرو إنجي، وهو رائد في أبحاث الذكاء الاصطناعي ساهم في تأسيس مختبر غوغل للذكاء الاصطناعي، أن الأمر التنفيذي يمكن أن يؤثّر أيضاً على مجتمع المصادر المفتوحة.
وبينما تسعى الشركات لطرح أدوات جديدة للذكاء الاصطناعي في السوق وتحقيق دخل منها منذ أن أطلقت شركة «أوبن إيه آي» برنامج «تشات جي بي تي» قبل نحو عام، تتصارع الحكوماتُ حالياً مع التحدي المتمثل في كيفية الرد على ذلك. ولهذا الغرض، عُقدت العديدُ من جلسات الاستماع في الكونغرس للتباحث حول هذا الموضوع، واقتُرحت مشاريع قوانين في المجالس التشريعية الفيدرالية والولائية. وخلال تلك النقاشات، قال ممثلو أقوى شركات الذكاء الاصطناعي بشكل صريح إن التكنولوجيا تطرح مخاطرَ حقيقيةً وإنهم يتوقون لتقنين القطاع. ووفقاً لهذه الشركات، فمن شأن سنّ تقنين جيد تجنبَ النتائج السيئة، وتشجيع مزيد من الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي، وجعل المواطنين يشعرون براحة أكبر مع التكنولوجيا التي تتطور بسرعة. وفضلا عن ذلك، فإن المشاركة في النقاش حول تقنين القطاع تمنح قادة الشركات تأثيراً وفرصة للإدلاء بدلوهم بخصوص أنواع القواعد التي يتم تطويرها. 
لكن منتقدي الأطر التنظيمية الناشئة يقولون إنها مبنية على مخاوف مبالغ فيها بشأن مخاطر الذكاء الاصطناعي. إذ يحذّر قادة مؤثرون في مجال الذكاء الاصطناعي، ومنهم رؤساء تنفيذيون من «أوبن إيه آي» و«مايكروسوفت» و«غوغل» و«أنثروبيك»، من أن الذكاء الاصطناعي يشكّل خطراً على المجتمعات البشرية يضاهي خطر الأوبئة أو الأسلحة النووية. كما يقول العديد من الباحثين ورجال الأعمال البارزين في مجال الذكاء الاصطناعي إن التكنولوجيا تتطور بسرعة كبيرة لدرجة أنها قد تتفوق قريباً على الذكاء البشري، وتبدأ في اتخاذ قراراتها الخاصة بنفسها. 
غير أن هذه المخاوف تمنح الحكومات غطاءً لتمرير اللوائح التنظيمية، وفقاً لإنجي، الذي ينتابه الندمُ الآن لأنه لم يتصدَّ لمخاوف «الخطر الوجودي» بقوة أكبر، إذ يقول: «إنني أجدُ صعوبةً في فهم أو تخيّل كيف يمكن للبشرية أن تنقرض!».

غيريت دي

مراسل الشؤون العلمية والتكنولوجية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»